[center]قراءة في كتاب
(الجغرافية السياسية للشيعة لفرانسوا توال)
بقلم: سماحة السيد علاء الموسوي/ باحث واستاذ في الحوزة العلمية/ النجف
يعد الكتاب خطوة مهمة في عالم الاستشراق الفرنسي المهتم بشؤن الاسلام بشكل عام و التشيّع بشكل خاص. وتكمن أهميته في حداثة المعلومات الواردة فيه إضافة الى التحليل التاريخي المحايد الذي يحاول المؤلف أن يعرضه في قالب معلومات وثائقية مبنية على الاحصاءات والدراسات الديموغرافية
(1) هذا سوى ما يشعر به القارئ من جهد بذله الكاتب في فهم وتحليل بعض العقائد الشيعية التي تتمتع بخصوصية عالية، ويعد الغوص في أعماقها امراًً مقصوراً على ثلة من العلماء والمثقفين من أبناء المذهب كمسالة الإمام المهدي عليه السلام وغيبته وفلسفة تلك الغيبة وتفسيرها من الزاوية السياسية والإستراتيجية، ولعل بعضنا سيفاجأ بأن بعض التحليلات التي عرضها الكاتب في كتابه هذا مما لم يتنبّه لها بعض كتاب الشيعة أنفسهم في قضية من أهم وأخطر القضايا العقائدية والسياسية في منظومة الفكر الإمامي. على أنَّ نفس هذا الكاتب الحصيف أخطأ في مواضع عديدة في استعراضه لتاريخ نشأة التشيّع وفرق الشيعة أخطاء تاريخية لا تحليلية.
لقد أراد الكاتب أن يجري مسحا جغرافيا سياسيا للشيعة في أماكن تواجدهم في العالم يحدد دورهم السياسي عالميا وإقليميا ومحليا. على ان المساحة الأكبر من اهتمامه اختصت بإيران لأسباب لا تخفى من كون الاكثريه الساحقة من سكانها هم من الشيعة، وكونها البلد الوحيد الذي استطاع إقامة حكومة تقوم على أساس ديني يتبنى التشيّع كمذهب رسمي لدولة. وكونها البلد الذي تمتد آثاره إلى دول الجوار، الآثار السياسية والاقتصادية والفكرية.
إلا أن اهتمامه بالشيعة العرب لم يكن قليلاً، فافرد فصولاً للحديث عن شيعة العراق وشيعة الخليج و شيعة الجزيرة العربية فضلا عن شيعة القوقاز، والجمهوريات السوفيتية السابقة.
وقد حرصت في هذه الصفحات القليلة على إبراز التحليلات التي عرضها الكاتب حول مسألة (العقيدة المهدوية) التي تعتبر حجر أساس في العقيدة الإسلامية الشيعية. لما رأيت فيها من وعي متقدم يحاول تفسير هذا المعتقد بعقلية سياسية تتلمس الواقع الشيعي مع غض النظر عن صحة تلك التحليلات أو سقمها.
إن من المهم أن نتعرف على صورة المذهب بشكل عام وصورة تلك العقيدة المهدوية بشكل خاص في أذهان الآخرين، خصوصاً عند أولئك الذين اخضعوا هذه المنطقة منذ عقود بعقائدها وتركيباتها السكنية وثرواتها الطبيعية ـ أخضعوها للدرس والبحث ـ ووضعوا صغيرها وكبيرها تحت المجهر بالشكل الذي لم يتيسّر فعله حتى لأبناء هذه المنطقة.
إن دراسات الاستشراق خصوصا الوثائقي فيها يحتوي على الكثير من المعلومات الهامة التي لم تتمكن جامعاتنا ومعاهدنا العلمية من الوصول إليها ولأسباب واضحة، وتمكّن أولئك من الحصول عليها من موقع القوي والمستعمر. الأمر الذي أضفى على تحليلاتهم جانبا من الأهمية، بناء على أن التحليل الأقرب إلى الصواب هو الذي يعتمد على مقدار أكبر من الوثائق والمعلومات.
التشيّع العربي والتشيّع الايراني:
يقول الكاتب
(2):
(إن التشيّع بعالميه: العربي والايراني لم يجر على نسق سياسي واحد، فبينما نجد التشيّع في العالم العربي هو مذهب المحرومين والمضطهدين والمنتظرين لظهور المصلح المنقذ، نجده في العالم الفارسي هو المذهب الرسمي منذ زمن الإمبراطوريات التي حكمت إيران وحتى اليوم).
ويقول في موضع آخر:
(إن التشيّع منذ أن وُجد - باستثناء إيران بعد القرن السادس عشر الميلادي-كان مذهب الأقلية المضطهدة والمحاصرة اجتماعياً. مع هذا الحال استطاع أن يبلور نظرة مبدأية للتاريخ ولمستقبل البشرية شكلت أساسا للمذهب المعتقد بظهور المصلح في آخر الزمان وبقيام يوم القيامة، الأمر الذي جعل هذا المذهب حركة ثورية مستمرة.
إن اقتران هاتين الخصوصيتين: كون المذهب هو مذهب الأقلية وكونه يحمل تفسيرا نبوّياً للتاريخ وللمستقبل.. جعل من عودة التشيّع إلى ساحة التأثير في الحياة السياسية والاجتماعية مشروعا لانفجار كبير.
إن التشيّع وحتى قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979 م، كان عاملا مهما على الساحة الدولية. إلا انه وبعد ذلك الانتصار اكتسب تماسكا وقوة أكبر).
إن الكاتب هنا ميز بين التشيّع في بلاد العرب والتشيّع في بلاد فارس بكونه عند بلاد العرب مذهب الضعفاء والمحرومين، ومن ثم المنتظرين للظهور. وبكونه في بلاد فارس مذهب السلاطين. وهذا التمييز قد يوحي بفكرة خاطئة، وهي أن فكرة الانتظار نظرياً وعملياً مرتبطة بحالة الاضطهاد السياسي والاجتماعي الأمر الذي لا يصح عقائدياً ولا واقعياً.
أما من الجهة العقائدية فمسألة المهدوية مسالة لها أدلّتها وبراهينها المستمدّة من الكتاب والسنّة والتي لا مكان فيها لهذا التمييز بين حالات الاضطهاد وحالات الرخاء والتربّع على السلطة وأما واقعياً فقد سجّل الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية التصاقا اكبر بفكر المهدوية، وانتشرت في هذه المرحلة كافة مظاهر الثقافة المهدوية بين جــميع الطــبقات ابتداءاً من كبار المسؤولين وحكــام البلد
وانتهاءاً بأبسط الطبقات.إن مسالة الإمام المهدي عليه السلام ليست حكما يلجأ إليه المظلومون والرازحون تحت الأحكام الجائرة، حتى إذا دارت عجلة الزمن وعاد المظلوم حاكماً وسلطانا تطاير ذلك الحُلمُ وانتفى من فكره وحياته لانتفاء الداعي إليه.
إن المهدوية فكرة دينية ذات مصادر شرعية تتحدث عن مصير العالم اجمع لا تتقيد ببقعة من الأرض ولا جماعة من البشر، بل هي تتحدث عن العدالة التي ينشدها جميع البشر على اختلاف معاناتهم ودرجات مظلوميتهم أيا كان بلدهم، وعن الحق الذي يجب أن يسود العالم إتماما للحجة على الخلق وإنفاذا لوعده: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون).
ثم انه تحدث عن قدرة التشيّع على بلورة فلسفة التاريخ يرتبط بها مصير البشرية بغاية تتحرك نحوها البشرية جمعاء وهي ظهور الإمام المهدي عليه السلام وقيام دولة العدل الالهية مما جعل هذا المذهب الذي هو مذهب الاقليه – مشروعاً مستمراً لانفجار كبير وتحول هائل.
من الواضح هنا ان المؤلف يتحدث عن القوة المختزنة في عقيدة الانتظار والتي تجعل من حركة الأقلية حركة قادرة على إحداث تحول هائل في تاريخ البشرية.
إن عقيدة الانتظار للمصلح العالمي، بما تتضمنه من أسس عقائدية مبرهنة وعمق وجداني في ضمائر المنتظرين، هي العامل الأساسي لتلك القوة الهائلة التي ستدفع يوماً ما إلى ساحة الحياة وتحدث انقلاباً عظيما في صالح العدالة المفقودة والمضيعة في حياة البشرية.
كما انها هي القوة الماسكة التي أعطت لهذه الأقلية القدرة على التماسك والاستمرار في الوجود طوال فترات التاريخ العادي لها والمضطهد لأفرادها وجماعاتها.
نعود إلى عبارة الكاتب: يقول:
(مع وجود التحقيقات والدراسات المهمة حول مذهب التشيّع، هذا المذهب الرومانسي، مذهب اليأس، والانتظار المهدوي الموعود، فان هذا لا زال مجهولاً في فرنسا، لان الإسلام الذي عرفته فرنسا من خلال مستعمراتها هو الاسلام السني الرائج في المغرب العربي والشرق الأوسط، خلاف الإسلام الشيعي الذي عرفته المستعمرات الانكلوساكسونية).
أقول: إن التعبير عن المذهب الشيعي بالمذهب (الرومانسي) لايعني سوى إدراك المؤلف لجوانب الوجدانية في العقيدة الشيعية التي تجعله مذهبا تفاعليا بعيداً عن الجفاف والجمود، ففي هذا المذهب تندمج العقيدة بالحب والولاء، وتلتحم الفكرة والفلسفة بالأمل والرجاء، وتتحول دموع المظلومين إلى قرار أكيد بالمقاومة والسعي الى تغير الواقع الفاسد. ويكون الارتباط بالقدوة المعصومة التي تجسد تلك الأفكار تجسيداً كاملاً وأميناً.
إن كلمة (الرومانسية) هي اقل كلمة في قاموس كاتب فرنسي عن وجدانية المذهب الشيعي والتحام الفكر بالعاطفة فيه.
واما تعبير المؤلف عن المذهب الشيعي بأنه (مذهب اليأس) فيبدو انه يريد: اليأس من الحكومات البشرية التي تعاقبت على حكم الناس وإدارة الحياة سائرة بها من سيئ إلى اسوأ ولهذا فهو يعقب ذلك بقوله: (والانتظار المهدوي الموعود) فاليأس في مذهبنا يأس من جميع التجارب السابقة والقائمة فعلا، وتطلع إلى حكومة الإمام المهدي عليه السلام التي لن تشبه شيئا مما سبقها من الدول.
التشيّع ظاهرة عربية:
قال المؤلف: (سنسعى في القسم الثاني من هذا الكتاب إلى إيضاح هذه الحقيقة وهي أن التشيّع منذ بدايته وحتى يومنا هذا لم يكن إلا ظاهرة عربية).
أقول: لا أظن أن أحدا سيتوهم أن المؤلف يحمل حساسية تجاه كون التشيّع عربياً او فارسياً. فهو رجل خارج أطار هذه المشاعر كلياً.
وكلمته هذه المستندة الى تجربته العلمية الخاصة وتتبّعه لتاريخ التشيّع لابدّ وان يكون لها اثر أخلاقي يحرج بعض الأقلام العربية أو المستعربة والتي أصرت على نسبة المذهب الشيعي الى الفرس. على أن كون المذهب عربياً او فارسياً ليس عاملاً مضعفاً ولا مقوياً ما دام المذهب قائما على الأدلة والبراهين التي يعتمدها المسلمون عموماً ومن يطلق هذه النسبة أيضاً خصوصا. إلا أن الأخلاق العلمية تفرض على القلم إنصافاً وواقعية تجدها غائبة عند أقلام تدعي العروبة والإسلام. وحاضرة بهذا الوضوح عند كاتب فرنسي لا يدعي شيئاً من ذلك.
للبحث صلة
الهوامش
(1)Oplitic de shia gio
(2) ص16 من الترجمة الفارسية.
منقول.